من أبطال المقاومة الأمازيغية: ( أنطالاس Antalas )
يعد أنطالاس Antalas من أهم أبطال المقاومة الأمازيغية اللذين أظهروا شجاعة كبيرة وجرأة نادرة في مواجهة القوات الوندالية والبيزنطية ومجابهة الروم في شمال أفريقيا إلى جانب گزمول Gazmul ويابداس Labdas وكاركازان Carcasan وإيرنا Ierna وإيوداس Iaudas.
وقد استطاع أنطالاس أن ينتصر على القوات البيزنطية ويهزمها هزائم نكراء مرات كثيرة في عدة مواقع من شمال أفريقيا ؛ لأن الإمبراطورية الرومية الشرقية أرسلت قواتها المتوحشة بعد قضائها على الوندال لكي تتوغل داخل تامازغا اقتداء بالإمبراطورية الرومانية الغربية المندثرة من أجل استنزاف خيرات الممالك الأمازيغية واغتصاب أراضيها ظلما وعنوة وتذليل أهلها وتركيع ساكنتها وتجويع أبنائها وقتل أبريائها .
بيد أن أنطالاس وقف في وجه الغزو البيزنطي سنوات عديدة في حروب حامية الوطيس، ولم ينهزم أمام القوات الرومية البيزنطية الغازية إلا بالمكر والخديعة والغدر، وذلك عندما التجأ البيزنطيون إلى ضربه بإخوانه من القواد الأمازيغيين تطبيقا لشعارهم المأثور:” اضرب الأمازيغيين بإلأمازيغيين”.
إذا، من هو أنطالاس؟ وماهي أهم التطورات التي عرفتها مقاومته ضد الوندال والبيزنطيين؟ وماهي نتائج هذه الثورة؟ هذه هي العناصر التي سنسلط عليها الضوء في هذا الموضوع التاريخي المتواضع.
1- من هو أنطالاس Antalas ؟
يعتبر أنطالاس من أهم زعماء المقاومة الأمازيغية المورية، ومن أشد قواد الأمازيغ ضراوة وشدة في المقاومة في شمال أفريقيا. وهو من أهم ملوك إمارة الفركسيس التي كانت توجد في جبال الظهر التونسية، وهو ابن الزعيم الموري گوينيفانGuenefan . وقد ظهر هذا الزعيم الموري في القرن السادس الميلادي، وبالتالي،عايش ظلم وقسوة الغزوين: الوندالي و البيزنطي. وهذا ما جعله يحارب الوندال والبيزنطيين مدة طويلة ، فأوقعهم في هزائم كثيرة إلى أن وسع نفوذه في الكثير من المناطق الأمازيغية في ليبيا وتونس ونوميديا . ولكن مقاومته لم تنطلق إلا بعد أن عاث الوندال فسادا في أرض تمازغا ، وبعد أن اعتقل البيزنطيون تحت قيادة سيرجيوس Sergius رؤساء لواتة وقتلهم في قصره. ولم يخضع أنطالاس إلا في سنة 548م على يد القائد البيزنطي جان طروگليتا jean Troglita .
أما إذا أردنا أن نحدد مملكة أنطالاس التي كان يحكمها هذا الملك الثائر” فتقع في قلب ولاية بيزاكينا، في جبال الظهر التونسية، في المثلث الذي يجمع بين تالة (Thala)، وطيليبت(Thelepte المدينة القديمة)، وتيفستة ( Théveste طبسة). فداخل هذا المثلث نشأت النواة الأولى لمملكة الفركسيس Frexes التي يقودها أنطالاس الذي تمكن عند بلوغه السابعة عشرة من عمره من تنظيم ثورات متعددة على عهد أبيه گوينيفان زعيم القبيلة آنذاك؛ وعلى الرغم من أن الوندال نظموا حملة عسكرية وجهت ضده، فلقد تمكن من الانتصار عليها وتحقيق استقلاله عن الحكم الوندالي بين 532-523م . وعند زحف البيزنطيين بحث عن وسيلة للحفاظ على استقلال قبيلته وسيادته المحلية، فأسرع بتقديم ولائه ليوستنيانوس مقابل الاعتراف بسلطته على قبيلته، لذلك أصبح حليفا للإمبراطورية لمدة عشر سنوات، كانت بيزنطة تمنحه خلالها راتبا سنويا مقابل إخلاصه. لكن سرعان ماتحول من موقف الحليف المخلص لبيزنطة إلى العدو الثائر على سلطتها. وقد يتضح ذلك من خلال التقديم لبعض الثورات التي شهدتها المنطقة، والتي يمكن أن تؤخذ كشكل من أشكال المقاومة المورية للاحتلال البيزنطي.”
ولم يتمكن أنطالاس من تحقيق انتصاراته والحفاظ على استقلال مملكته إلا باستشارة كبار مملكة الفركسيس، وتوحيد القبائل المورية، وتكوين جيش عتيد مدرب على الكر والفر والمواجهة المباشرة وغير المباشرة، والاستعانة بالطبقات الاجتماعية الكادحة المتذمرة المظلومة، وتطبيق سياسة ماسينيسا في محاصرة الأعداء وتطويقهم في معاقلهم وحصونهم، والتحالف مع قواد القبائل الأمازيغية الأخرى في تقوية الصف الأمازيغي في مجابهة العدو البيزنطي الزاحف كإيرنا ويوداس وكاركزان.
2- تطـــور مقاومــــة أنطالاس:
أ- انهيـــار الونــــدال:
من المعروف أن البيزنطيين لم يستقروا بشمال أفريقيا إلا بعد القضاء على القوات الوندالية المتوحشة التي جاءت من أقاصي الجرمان لسفك الدماء في بلاد تامازغا ونشر الفساد في هذه المنطقة ونهب كل خيرات البلاد وتخريب عمارة الأمازيغ ومدنية القرطاجنيين والرومان. وكان الوندال الهمج لايعرفون سوى لغة الذبح وتصفية المعارضين وقتل الشيوخ والنسوة والأطفال وحرق المغروس وتخريب المدن ودكها، وكانت قلوبهم لاتعرف الرحمة كما كانوا لا يؤمنون بأسس المدنية ولا بضرورة المساهمة في بناء الحضارة الإنسانية . لأنهم كانوا في حقيقتهم بدوا ورعاة وغجرا قساة القلوب، متوحشين في أفعالهم يشبهون في التاريخ الوسيط القوات التتارية المغولية المتوحشة التي كان يقودها جينكزخان وهولاكو من أجل إسالة دماء البشر والحصول على الغنائم وسبي النساء وقتل ماعدا ذلك وحرق كل ما تنبته الأرض وتخريب كل عمران وأثر إنساني.
ولما دخل البيزنطيون إلى شمال أفريقيا وجدوا الوندال مازالوا يحاربون المقاومين الأمازيغ، ولاسيما قائدهم الشهم أنطالاس الذي صادفت مقاومته ظهور الجمل الذي كان يثير خوفا في نفوس الوندال العداة، وفي هذا الصدد يقول الباحث المغربي محمد بوكبوط:”ركز بعض المؤرخين على عامل أولوه أهمية مبالغ فيها، وحاولوا بواسطته تفسير انهيار الحكم الوندالي، يتمثل في ظهور الجمل والقبائل الجمالة. فهذا الحيوان حسب تحليلهم قلب موازين القوى العسكرية بين الوندال- المشتهرين بالبطش والشدة في حروبهم- والأمازيغ بسبب ” الفزع” الذي كان يثيره منظر الجمل في صفوف فرق الفرسان الوندال.
مرة أخرى نقف على محاولات المؤرخين الأوربيين ومن حذا حذوهم لتجريد الأمازيغ من أي فعل تاريخي إيجابي، بإرجاع انتصاراتهم ومكتسباتهم إلى عوامل خارجة عن طاقتهم وإدراكهم وعزمهم الأكيد على طرد الغزاة المحتلين، بحيث يتعامى الطرح السالف على وقائع تاريخية تؤكد حقيقة لامراء فيها، وهي استمرار المقاومة والمعارضة من جانب الأمازيغ ضد الأجانب المغتصبين لأرضهم، هذه المعارضة التي اختلفت طبيعتها حسب موازين القوى بينهم وبين خصومهم. فإذا كانت خلال قوة الإمبراطورية الرومانية ذات طابع سلبي … فإنها أصبحت معارضة منظمة إيجابية خلال حكم الوندال، ذلك أن إمارات متعددة نشأت في المناطق المحررة من النير الأجنبي وعملت على تحقيق الهدف التاريخي للأمازيغ الذين طردوا إلى الهوامش والمعاقل الجبلية، والمتمثل في الرجوع إلى الشمال والمناطق الغنية.
غير أن هذه السيرورة التاريخية كلما دنت من التتويج تصطدم بموجة عاتية تجهضها، ممثلة في إرادة قوة أجنبية أخرى كان لتدخلها أثر معرقل.”
وستساعد ثورة أنطالاس الطويلة على الوندال واشتعال الثورات الدينية والاجتماعية والعسكرية والثقافية في التعجيل بانهيار الوندال وتعبيد الطريق أمام البيزنطيين للدخول إلى شمال أفريقيا للاستقرار فيها مدة قرن من الزمن.
ب- دخول البيزنطيين إلى أفريقيا الشمالية:
لم تباشر الإمبراطورية البيزنطية في إرسال قواتها العسكرية إلى شمال أفريقيا لمنازلة الوندال إلا بعد إحساسها بضعف العدو الجرماني عسكريا وميدانيا أمام المقاومة الأمازيغية الشرسة التي استنزفت القوة الوندالية ، ووجهت لها ضربات موجعة في معارك شتى فوق التراب النوميدي والتونسي والليبي بالخصوص.
وهكذا، فقد” أبحرت القوات البيزنطية نحو شمال أفريقيا لمنازلة الوندال سنة 534م، ولم يجد بليزير كبير عناء في سحقهم ودخول عاصمتهم قرطاج، فضمت بذلك أفريقية إلى حظيرة الإمبراطورية البيزنطية مدة قرن من الزمن(434-534م).
والحقيقة أن هذا الانتصار السريع الذي حققه البيزنطيون توفرت له ظروف ملائمة مرتبطة بوضع مملكة الوندال، أهمها الثورات الاجتماعية الدينية التي أشعلها الأمازيغ في المنطقة الخاضعة للنفوذ الوندالي، مع ماترتب عليها من انعكاسات سياسية وعسكرية سلبية، كما أن الأمازيغ الكاثوليك بعثوا رسلا إلى بيزنطة طالبين من إمبراطورها تجريد حملة عسكرية مع إعطاء ضمانات بانتصارها على الوندال، الشيء الذي يفسر عدم اصطدام البيزنطيين بمقاومة شعبية أمازيغية. بل نجد أنه عقب إنزال القوات البيزنطية كان الملك الوندالي جلمار على رأس أغلبية قواته في حملة لقمع ثورة بالساحل الجنوبي لإفريقية، تزعمها أمير أمازيغي يدعى أنطالاس.”
ونهجت الحكومة البيزنطية سياسة التحصين وبناء المعاقل على غرار خط الليمس الروماني للحفاظ على وجودهم في إفريقيا الشمالية بعد أن احتلوا تونس وجزءا من نوميديا الشرقية ( الجزائر). وفي الغرب احتلت موانئ تيبازة وشرشال وسبتة وتينجي. وبدأت الحكومة في استغلال ثروات تامازغا واستنزاف خيراتها على غرار السياسة المتبعة من قبل الرومان في العهود السابقة. وشجعت الملاكين ورجال الدين والمرابين على امتلاك الأراضي واستغلال الأمازيغيين وفرض الضرائب الفاحشة والتوسع في الكثير من المناطق من شمال أفريقيا من أجل خدمة المصالح الإستراتيجية للإمبراطورية البيزنطية. بيد أن هذه السياسة التوسعية ستجابه بمقاومة أمازيغية شرسة ولاسيما في نوميديا وتونس وليبيا وقد قادها كل من أنطلاس ويوداس وكوتزيناس بعد أن استغلوا ضعف البيزنطيين وصراعهم حول السلطة وتهافتهم حول الغنائم والنفوذ السياسي والمالي:” فبعد موت جوستنيار(يوستنيانوس) سنة565م، تأكد بالملموس أن الأوضاع تغيرت بعمق في أفريقيا البيزنطية، إذ تواطأ كبار الملاك والموظفون وضباط الجيش للهيمنة على مقاليد الأمور، وانتشر النهب والاستغلال الجشع، وما كثرة التحصينات حول المدن في ذلك العهد إلا دليل على تلاشي السلطة واتساع الهوة بين الحاكمين البيزنطيين والأمازيغ المحكومين، بحيث أعلن هؤلاء الثورة واتساع الهوة بين الحاكمين البيزنطيين في مدنهم، كما اتبع الأمراء الأمازيغ سياسة ماسينيسن (ماسينيسا) الطويلة النفس، المتمثلة في الضغط والمضايقة المستمرين. ومن أشهر هؤلاء الزعماء الأمازيغ الذين تصدوا للاحتلال البيزنطي يوداس أمير الأوراس الذي كانت نوميديا مجال حركته، وكورتيزاس الذي حارب البيزنطيين في افريقية وغيرهما من الأمراء الأمازيغ الذين تزعموا حسب المؤرخين ثماني أو تسع إمارات”
ومن جهة أخرى، فقد ضمن البيزنطيون عن طريق سياسة التحصين وبناء المعاقل” بقاء مهمشا لمواقعهم على الساحل المتوسطي الأفريقي لمدة قرون، دون أن يتمكنوا من التوغل في الأراضي الداخلية كما فعلوا في مصر والشام وآسيا الصغرى وإيطاليا. ضمنوا لها البقاء،دون ضمان الأمن؛ كانوا عادة لاينتقلون من موقع إلى موقع إلا عن طريق البحر. ولما امتدت أنظار الروم إلى بعض أراضي أفريقيا ونوميديا الشرقية، نشطت المقاومة الأمازيغية نشاطا كبيرا بقيادة زعماء من قبائل” أوراس” ، وقبائل ” اللواتة” الليبية أمثال يابداس وأنطالاس وكاركزان. فانهزم البيزنطيون عدة مرات، مع لجوئهم إلى الغدر في غير مناسبة، وقتل منهم عدد من القواد العسكريين الكبار، فاضطروا مرارا إلى أداء الفدى وتقديم الهدايا النفيسة. فبالإضافة إلى المناوشات التي تحدث بين الطرفين باستمرار، قد دارت بينهما معارك طاحنة سنة 537من وسنة543م، وسنة 550م، وسنة563م، فبرز في تلك المعارك قواد عسكريون أمازيغيون مهرة أمثال”گزمول” الذي هزم بالتوالي ثلاثة جنرالات وقتلهم. وكان المقاومون كلما انهزموا لاذوا بالجبال أو الصحراء. وكان الأسرى منهم يتحدون الجنود الروم ويسبون الإمبراطور وهم مصفدون. فأدرك القواد البيزنطيون أن ” الأمازيغ لايمكن أن يهزمهم إلا البربر!”.فاستدرجوا قبائل ” أوراس” إلى التحالف معهم بقيادة يابداس وإفيسداياس Ifisdaias ؛ فقتل أنطالاس. وفي سنة597م خادع الروم البربر وغدروا بهم غدرا شنيعا، وهزموهم. ثم، تواصلت المناوشات إلى أن جاء الإسلام.”
وهكذا، فقد حاول البيزنطيون أن يحافظوا على وجودهم في شمال أفريقيا ولو لفترة مؤقتة قصد استغلال المنطقة استغلالا سريعا لتأمين اقتصاد الإمبراطورية المركزية عن طريق شراء ضمائر القواد الأمازيغيين وضمان تحالفهم ، ونشر التفرقة بين الأهالي والغدر بهم في الأخير، بيد أنهم لم يفلحوا في ذلك بسبب اشتداد المقاومة الأمازيغية في كل ربوع تامازغا احتجاجا على الوجود البيزنطي في أرضهم.
ج- مقاومة أنطالاس للقوات البيزنطية:
لم يحارب أنطالاس القوات البيزنطية إلا بعد مقتل زعماء لواتة وقتل أخيه وتوقف راتبه السنوي . وبالتالي، رفض أنطالاس بشكل قاطع أي تحالف مشين مع البيزنطيين الذين أرادوا تجويع الممالك الأمازيغية من أجل تصدير خيرات الأمازيغ الأحرار إلى بيزنطة، وفي هذا السياق تقول الأستاذة ماجدة بنحربيط:” ومن بين هذه القبائل نذكر قبيلة اللواتيين Levathes الذين كانوا يستقلون ببعض الأراضي الواقعة على حدود مدينة لبدة، ولقد أدت إهانة الحاكم البيزنطي سرجيوسSergius لبعض ممثليهم، وقتله لأعداد كبيرة منهم، حين اشتكوا له تطاول الجيش البيزنطي على أراضيهم، إلى إعلانهم الحرب على بيزنطة، ويبدو أن انتصار البيزنطيين عليهم في المعركة الأولى، دفع بهم إلى دعوة كل القبائل المورية سواء التي تستقر داخل الأراضي الطرابلسية أم خارجها إلى تنظيم صفوفهم استعدادا للحرب، وانتقلوا جميعا إلى بيزاكينا للاتصال بأنطالاس الذي أعلن بدوره عن محاربته للبيزنطيين بسبب مقتل أخيه على يد سولومون وتوقف راتبه السنوي الذي تقدمه له بيزنطة منذ تحالفه مع بليزاريوس.”
ولم يقاوم أنطالاس البيزنطيين فحسب، بل واجه قبلهم الجيوش الوندالية وخاصة في الساحل الجنوبي لإفريقية. واستطاع أن ينتصر على الوندال وأن يعكر صفو رؤسائهم وقوادهم الذين كرسوا وقتا كبيرا لدحر قوات أنطالاس، ولكن بدون هدف يذكر ولا جدوى. وقد أهلت الحروب التي خاضها أنطالاس ضد الوندال لامتلاك خبرة كبيرة في إدارة الحروب وتسيير دفتها وإعداد الجيوش إعدادا حسنا في مواجهة القوات البيزنطية الغازية.
هذا، وقد فشل البيزنطيون في بداية الأمر فشلا ذريعا في مواجهة القوة الأمازيغية بسبب كثرة القلاقل والفتن التي كانت تشتعل كل وقت وحين في مناطق النفوذ البيزنطي والتي كان وراءها القواد الأمازيغيون الكبار أمثال: أنطالاس ويوداس وكوتزيناس، وقد سببت هذه الحروب المتطاحنة بين البيزنطيين و الأمازيغ في استنزاف قوة الغزاة الذين لم يستطيعوا الصمود أمام الجحالف العربية الغازية بدعوى (نشر الإسلام) .
وكانت ثورة أنطالاس ثورة اجتماعية ودينية وبروليتارية شاملة
شارك فيها الأهالي والفلاحون والعبيد والأقنان والمياومون الأجراء والمظلومون من ساكنة تامازغا، فانتفضوا ضد الاستغلال البيزنطي وتظاهروا ضد سياسة الإقصاء والتهميش، وطرد الأمازيغيين من أراضيهم وممتلكاتهم، فوجدوا في مناصرة أنطالاس حلا للانتقام من الأعداء والتشفي من الوجود البيزنطي الذي جوعهم وتركهم حفاة عراة بدون أراضيهم وممتلكاتهم وخيراتهم .
ويعني هذا أن العامل الاقتصادي كان من بين العوامل التي أشعلت المقاومة العسكرية التي قادها أنطالاس ، وهذا العامل يركز عليه كثيرا الدكتور عبد الله العروي باعتباره سببا مباشرا لانفجار ثورة أنطالاس التحررية:” في بداية القرن السادس طرد أنطالاس وأتباعه الملاكين البيزنطيين من منطقة غرب تونس الحالية، كيف لانتصور أن العملية تمت وسط فرحة الأهالي المزارعين! عندما تحصن البيزنطيون في المدن وطوقوا جبل الأوراس لكي لا يباغتهم سكانه، عندما تقدم الأمازيغ الثائرون من طرابلس إلى ضاحية قرطاج سنة587م، والحكم آنذاك بين يد قائد الجيش الإمبراطوري جيناديوس، أكان من الممكن أن تتحقق هذه الانتصارات لو لم يحظ الثوار بإعانة الأقنان والمياومين وصغار الملاكين الذين تحرروا من عبء السخرة والضريبة والكراء؟ صحيح أن سكان المغرب المفتوح، المعروفين باسم الأفارقة اليوم ، كانوا يختلفون دينا ولغة وعادات عن الماوريين، أو البربر الأحرار، لكن بما أن الكنيسة الكاثوليكية قد ربطت مصيرها بالنظام الإمبراطوري، ألا يجوز لنا أن نفترض أن المغاربة غلبوا في النهاية المصالح المشتركة على الفوارق الثقافية؟”
وعليه، فلم تقم ثورة أنطالاس في مواجهة البيزنطيين سوى من أجل الانتقام من الظالمين الذين كانوا يسفكون دماء الأمازيغيين بدون رحمة ولا شفقة، والثأر من هؤلاء الروم الغادرين الذين قتلوا رؤساء قبيلة لواتة نزولا إلى أوامر سيرجيوس في تصفية المعارضين والمقاومين الشرفاء. وقد خاض أنطالاس عدة حروب ضد الكثير من القواد البيزنطيين، واستطاع بخبرته المحنكة في القتال أن يهزمهم شر هزيمة، ولكنه سينهزم في الأخير مع القوات البيزنطية التي كان يقودها جان تروگليتا (يوحنا التروليطي) بعد ما أن مني بمكائد إخوانه الأمازيغ والخونة المتعاونين مع قوات الأعداء الغزاة.
وعلى الرغم من ذلك فلم تفلح الإمبراطورية الرومانية في فرض سيطرتها على الممالك الأمازيغية بسبب كثرة الفتن والثورات التي كانت تشتعل هنا وهناك إلى أن جاء جيوش الغزات العربية لتضع نهاية للوجود البيزنطي في شمال أفريقيا. ويوضح ما قلناه الأستاذ إبراهيم حركات في كتابه” المغرب عبر التاريخ”:” أدى التهور بسرجيوس حاكم طرابلس إلى اعتقال رؤساء لواتة وقتلهم في قصره فتألب البربر على البيزنطيين تعضيدا لإخوانهم وقاد الثورة البربرية أنطالاس الذي قضى على سالومون Salomon وجيشه في معركة قصرين سنة543م.
ولم يوفق سرجيوس الذي خلف سولومون في التغلب على الامازيغ الذين اكتسحوا مدن أفريقية ونوميديا وهزموا جيوشه في كل مكان. ورغم تعيين القائد أريوبندوس Aréobindus مساعدا له، فإن أنطالاس استمر في اكتساحه للمدن والقرى، بينما دبرت مؤامرة ضد أريبوندوس من لدن بعض أعدائه العسكريين الذين قدموا رأسه إلى أنطالاس، وأخيرا عين القائد جان طروگليتا على جيش بيزنطة بأفريقية. وبعد سنوات طويلة من الصراع استطاع إخضاع أنطالاس سنة548م، حتى إذا مات جستنيان سنة 565م استأنف الامازيغ الكفاح ضد البيزنطيين الذين قاموا بإنشاء تحصينات عديدة في المراكز التي كانوا يحتلونها بما في ذلك سبتة..”
وهكذا نستنتج أن أنطالاس أذاق البيزنطيين مرارة الهزائم المتوالية وخاصة في معركة قصرين التي سقط فيها سالومون صريعا. وبعد ذلك، توالت هزائم القواد البيزنطيين بشكل فظيع:” لقد استغل الموريون ارتفاع أعدادهم في هذه المرحلة مقارنة بأعداد البيزنطيين فضلا عن تشتت صفوف هذا الأخير بسبب تمرد بعض عناصره، فأحرزوا على الانتصار، خلال هذه المعركة التي سقط سلومون خلالها صريعا، والتي تسمى معركة كيليوم نسبة إلى مدينة كيليوم (قصرين) Cilium ، بينما لجأت باقي العناصر البيزنطية إلى الفرار. وتوالت انتصارات الموريين على البيزنطيين في بيزاكينا، إذ تمكنوا من التقدم نحو ولاية البروقنصلية التي شهدت بدورها بعض أطوار الصراع البيزنطي- الموري خلال هذه المرحلة، والتي اهتم بوصفها كلا من بروكوپ وكوريبوس؛ مما دفع بيوستتنيانوس إلى تعيين مجموعة كبيرة من القادة العسكريين للقضاء على هذه الثورات . كان آخرهم هو يوحنا التروليطي الذي قاد المرحلة الأخيرة من مراحل الحرب المورية- البيزنطية.”
ولكن لم تخمد مقاومة أنطالاس ومقاومة رفاقه الأمازيغيين إلا بسبب الخيانة الأمازيغية و غدر الأهالي بأبطالهم حقدا وحسدا وطمعا في الغنائم الرومانية والوعود البراقة التي كان يثق فيها الأمازيغ؛ مما يجعلهم يلتجئون إلى الغدر بزعمائهم وقوادهم من خلال التحالف مع القوات البيزنطية، وفي هذا يقول بعض المؤرخين المغاربة:” أما الأمازيغ- أهل البلاد- فقد سلك معهم الروم سياسة خاصة قوامها استمالة الرؤساء وبذر الشقاق فيما بينهم. وقد كان الروم يعلمون- كما علم الرومان قبلهم- أنهم لا يزالون بخير مادامت كلمة الأهالي متفرقة لم تجتمع وقلوبهم شتى؛ ولهذا كانوا يستقدمون رؤساء الأمازيغ لقرطاجنة؛ فيسبغون عليهم من الحلل والخلع ما يثلج صدورهم ويجعل ألسنتهم رطبة بالثناء عليهم؛ ثم يوسوسون لهم حتى يغيروا بعضهم على بعض. ولو علمت ماكان بين رؤساء الأمازيغ من البغضاء والشحناء والتنافس في أتفه الأمور وأحقرها شأنا لعرفت مقدار تطاحنهم وتهافتهم على أبواب الحكومة البيزنطية سعيا في إشباع رغباتهم وتحقيق مصالحهم الشخصية. كل ذلك والروم ينظرون إليهم في شيء من الغبطة والارتياح بما نفذ فيهم من سياسة الفرقة والسيادة.”
3- نتائج ثورة أنطالاس:
تتمثل نتائج المقاومة الأمازيغية التي أشعلها أنطالاس في إسراع البيزنطيين إلى تطويق الأمازيغيين ومحاصرتهم عسكريا من أجل استنزاف خيرات تامازغا بشكل مستمر؛ لأنهم كانوا يعلمون أنهم لن يظلوا متشبثين بهذه الأراضي بسبب المقاومة الشرسة التي كان يشعلها المقاومون الأمازيغ، لذلك عمل البيزنطيون على التنكيل بكل الزعماء الأمازيغ الأقوياء وإعدامهم بقسوة لانظير لها:”كان الزعماء الأمازيغ يعترفون بسيادة اسمية لمن حكم قرطاج وماحواليها، لكنهم يرفضون كل عودة إلى وضعية ما قبل القرن الثالث، إلى عهد التوسع والاستغلال المباشر، وهو موقف لايتسم بالخداع والحقد والطيش،كما يقول المؤرخون الغربيون، بقدر ما يتميز بما اتسمت به سياسة ماسينيسن من عناد وطول النفس، من لجوء إلى خطة لا تتغير وهي محاصرة الروم في حماهم الحصين، حمى القرطاجيين ومن جاء بعدهم ومضايقتهم جنوبا وشرقا. تدل وقائع لأواخر العهد البيزنطي عن يأس شديد إذ لجأوا باستمرار إلى الغدر والخيانة والانتقام والمباغتة، إلى الحيل التي يرغم على إتباعها عادة المحاصرون. كل قائد سقط بين أيديهم أعدموه في الحين، وهذا ما حصل لأنطالاس وكركزان وگرمول. أحسوا منذ البداية أن حكمهم مؤقت فقرروا الاستفادة منه في أقصر وقت. استغلوا الناس فوق ما يطاق فأضرموا نار ثورة لاتخمد.”
ولم يتم القضاء على ثورة أنطالاس – كما أثبتنا ذلك سالفا- إلا باستعانة الإمبراطور يوستنيانوس بيوحنا الترولوطي الذي عينه سنة546م حاكما جديدا على أفريقيا ليتولى الإدارة المدنية والعسكرية، ويقضي على كل الثورات الأمازيغية المعارضة، ويوقف المقاومة المورية بالنار والحديد ولاسيما ثورة أنطالاس الواسعة.
ولما غادر:” يوحنا القسطنطينية متجها نحو الساحل الإفريقي بوصوله إلى ولاية بيزاكينا، استقبل مبعوثا موريا ينصحه باسم ملك الفريكسيس أنطالاس بالتراجع وعدم خوض حرب، سيحقق خلالها النصر للموريين ومذكرا إياه بالانتصارات التي حققها أجداد الموريين على الإمبراطور الروماني ماكسيميان Maximien في القرن الثالث الميلادي305-286م.
لكن تروليطا لم يبد اهتماما برسالة الملك الموريين وخاضت فيالق من الجيش البيزنطي معركة ضد الموريين انتهت بهزيمة البيزنطيين وفرارهم، ولما علم تروليطا بهزيمة الفيالق البيزنطية ، نظم صفوفه لمواجهة أنطالاس قائد الفريكسيس وإيرنا قائد اللواتيين، واهتم كذلك بالبحث عن حلفاء له في الأوساط المورية، وتحقق له ذلك حين تحول الموريون أتباع كوتزينا عن موقفهم المعادي لبيزنطة، وحاربوا إلى جانبها في المعارك الأخيرة.”
وإذا كانت نتائج المعارك والتطاحنات بين الفريقين في الأخير لصالح البيزنطيين بسبب خيانة البربر، وحسدهم لبعضهم البعض، وكثرة أطماعهم التي لاتنتهي، والانتقال إلى قصور البيزنطيين من أجل التوسل والاستجداء رغبة في إشباع رغباتهم ونزواتهم على حساب الوطن وكينونة الأهالي والشرف الأمازيغي، فإنهم- كما قلنا سابقا- لم ينعموا بانتصاراتهم في بلاد تامازغا؛ وذلك لاشتداد المقاومة الأمازيغية الشرسة التي حررت اراضيها بقوة الرجال.
خاتمــــــة:
يمثل أنطالاس المقاومة العسكرية الأمازيغية في عهد البيزنطيين خير تمثيل؛ لأنه استطاع أن ينتصر على القواد وجنرالات الإمبراطورية البيزنطية، وأن يسحقها بكل قوة وشراسة في عدة معارك حامية الوطيس، وقد تأثر في مقاومته للبيزنطيين المتحصنين في المعاقل والثكنات العتيدة بالطرائق العسكرية والسيناريوهات الحربية التي انتهجها أجداده أمثال: يوغرطة وتاكفاريناس وماسينيسا . ولم تخمد ثورته العسكرية إلا عن طريق الخيانة ((البربرية)) وشراء البيزنطيين لذمم رؤساء القبائل للتحالف معهم ضد الثوار المنشقين عن الحكم البيزنطي وتطويق المقاومة الأمازيغية ومحاصرة زعمائها أينما حلوا وارتحلوا.
وعلى الرغم من ذلك، فقد اشتدت المقاومة الأمازيغية ضراوة واشتعالا في الكثير من مناطق شمال أفريقيا؛ مما جعل البيزنطيين لا ينعمون بالاستقرار والأمن في تحصيناتهم ومعاقلهم ، وقضوا قرنا كاملا في الدفاع عن نفوذهم وأطماعهم إلى أن جاء الغزو العربي الذي وضع حدا نهائيا للوجود البيزنطي في شمال أفريقيا.
يعد أنطالاس Antalas من أهم أبطال المقاومة الأمازيغية اللذين أظهروا شجاعة كبيرة وجرأة نادرة في مواجهة القوات الوندالية والبيزنطية ومجابهة الروم في شمال أفريقيا إلى جانب گزمول Gazmul ويابداس Labdas وكاركازان Carcasan وإيرنا Ierna وإيوداس Iaudas.
وقد استطاع أنطالاس أن ينتصر على القوات البيزنطية ويهزمها هزائم نكراء مرات كثيرة في عدة مواقع من شمال أفريقيا ؛ لأن الإمبراطورية الرومية الشرقية أرسلت قواتها المتوحشة بعد قضائها على الوندال لكي تتوغل داخل تامازغا اقتداء بالإمبراطورية الرومانية الغربية المندثرة من أجل استنزاف خيرات الممالك الأمازيغية واغتصاب أراضيها ظلما وعنوة وتذليل أهلها وتركيع ساكنتها وتجويع أبنائها وقتل أبريائها .
بيد أن أنطالاس وقف في وجه الغزو البيزنطي سنوات عديدة في حروب حامية الوطيس، ولم ينهزم أمام القوات الرومية البيزنطية الغازية إلا بالمكر والخديعة والغدر، وذلك عندما التجأ البيزنطيون إلى ضربه بإخوانه من القواد الأمازيغيين تطبيقا لشعارهم المأثور:” اضرب الأمازيغيين بإلأمازيغيين”.
إذا، من هو أنطالاس؟ وماهي أهم التطورات التي عرفتها مقاومته ضد الوندال والبيزنطيين؟ وماهي نتائج هذه الثورة؟ هذه هي العناصر التي سنسلط عليها الضوء في هذا الموضوع التاريخي المتواضع.
1- من هو أنطالاس Antalas ؟
يعتبر أنطالاس من أهم زعماء المقاومة الأمازيغية المورية، ومن أشد قواد الأمازيغ ضراوة وشدة في المقاومة في شمال أفريقيا. وهو من أهم ملوك إمارة الفركسيس التي كانت توجد في جبال الظهر التونسية، وهو ابن الزعيم الموري گوينيفانGuenefan . وقد ظهر هذا الزعيم الموري في القرن السادس الميلادي، وبالتالي،عايش ظلم وقسوة الغزوين: الوندالي و البيزنطي. وهذا ما جعله يحارب الوندال والبيزنطيين مدة طويلة ، فأوقعهم في هزائم كثيرة إلى أن وسع نفوذه في الكثير من المناطق الأمازيغية في ليبيا وتونس ونوميديا . ولكن مقاومته لم تنطلق إلا بعد أن عاث الوندال فسادا في أرض تمازغا ، وبعد أن اعتقل البيزنطيون تحت قيادة سيرجيوس Sergius رؤساء لواتة وقتلهم في قصره. ولم يخضع أنطالاس إلا في سنة 548م على يد القائد البيزنطي جان طروگليتا jean Troglita .
أما إذا أردنا أن نحدد مملكة أنطالاس التي كان يحكمها هذا الملك الثائر” فتقع في قلب ولاية بيزاكينا، في جبال الظهر التونسية، في المثلث الذي يجمع بين تالة (Thala)، وطيليبت(Thelepte المدينة القديمة)، وتيفستة ( Théveste طبسة). فداخل هذا المثلث نشأت النواة الأولى لمملكة الفركسيس Frexes التي يقودها أنطالاس الذي تمكن عند بلوغه السابعة عشرة من عمره من تنظيم ثورات متعددة على عهد أبيه گوينيفان زعيم القبيلة آنذاك؛ وعلى الرغم من أن الوندال نظموا حملة عسكرية وجهت ضده، فلقد تمكن من الانتصار عليها وتحقيق استقلاله عن الحكم الوندالي بين 532-523م . وعند زحف البيزنطيين بحث عن وسيلة للحفاظ على استقلال قبيلته وسيادته المحلية، فأسرع بتقديم ولائه ليوستنيانوس مقابل الاعتراف بسلطته على قبيلته، لذلك أصبح حليفا للإمبراطورية لمدة عشر سنوات، كانت بيزنطة تمنحه خلالها راتبا سنويا مقابل إخلاصه. لكن سرعان ماتحول من موقف الحليف المخلص لبيزنطة إلى العدو الثائر على سلطتها. وقد يتضح ذلك من خلال التقديم لبعض الثورات التي شهدتها المنطقة، والتي يمكن أن تؤخذ كشكل من أشكال المقاومة المورية للاحتلال البيزنطي.”
ولم يتمكن أنطالاس من تحقيق انتصاراته والحفاظ على استقلال مملكته إلا باستشارة كبار مملكة الفركسيس، وتوحيد القبائل المورية، وتكوين جيش عتيد مدرب على الكر والفر والمواجهة المباشرة وغير المباشرة، والاستعانة بالطبقات الاجتماعية الكادحة المتذمرة المظلومة، وتطبيق سياسة ماسينيسا في محاصرة الأعداء وتطويقهم في معاقلهم وحصونهم، والتحالف مع قواد القبائل الأمازيغية الأخرى في تقوية الصف الأمازيغي في مجابهة العدو البيزنطي الزاحف كإيرنا ويوداس وكاركزان.
2- تطـــور مقاومــــة أنطالاس:
أ- انهيـــار الونــــدال:
من المعروف أن البيزنطيين لم يستقروا بشمال أفريقيا إلا بعد القضاء على القوات الوندالية المتوحشة التي جاءت من أقاصي الجرمان لسفك الدماء في بلاد تامازغا ونشر الفساد في هذه المنطقة ونهب كل خيرات البلاد وتخريب عمارة الأمازيغ ومدنية القرطاجنيين والرومان. وكان الوندال الهمج لايعرفون سوى لغة الذبح وتصفية المعارضين وقتل الشيوخ والنسوة والأطفال وحرق المغروس وتخريب المدن ودكها، وكانت قلوبهم لاتعرف الرحمة كما كانوا لا يؤمنون بأسس المدنية ولا بضرورة المساهمة في بناء الحضارة الإنسانية . لأنهم كانوا في حقيقتهم بدوا ورعاة وغجرا قساة القلوب، متوحشين في أفعالهم يشبهون في التاريخ الوسيط القوات التتارية المغولية المتوحشة التي كان يقودها جينكزخان وهولاكو من أجل إسالة دماء البشر والحصول على الغنائم وسبي النساء وقتل ماعدا ذلك وحرق كل ما تنبته الأرض وتخريب كل عمران وأثر إنساني.
ولما دخل البيزنطيون إلى شمال أفريقيا وجدوا الوندال مازالوا يحاربون المقاومين الأمازيغ، ولاسيما قائدهم الشهم أنطالاس الذي صادفت مقاومته ظهور الجمل الذي كان يثير خوفا في نفوس الوندال العداة، وفي هذا الصدد يقول الباحث المغربي محمد بوكبوط:”ركز بعض المؤرخين على عامل أولوه أهمية مبالغ فيها، وحاولوا بواسطته تفسير انهيار الحكم الوندالي، يتمثل في ظهور الجمل والقبائل الجمالة. فهذا الحيوان حسب تحليلهم قلب موازين القوى العسكرية بين الوندال- المشتهرين بالبطش والشدة في حروبهم- والأمازيغ بسبب ” الفزع” الذي كان يثيره منظر الجمل في صفوف فرق الفرسان الوندال.
مرة أخرى نقف على محاولات المؤرخين الأوربيين ومن حذا حذوهم لتجريد الأمازيغ من أي فعل تاريخي إيجابي، بإرجاع انتصاراتهم ومكتسباتهم إلى عوامل خارجة عن طاقتهم وإدراكهم وعزمهم الأكيد على طرد الغزاة المحتلين، بحيث يتعامى الطرح السالف على وقائع تاريخية تؤكد حقيقة لامراء فيها، وهي استمرار المقاومة والمعارضة من جانب الأمازيغ ضد الأجانب المغتصبين لأرضهم، هذه المعارضة التي اختلفت طبيعتها حسب موازين القوى بينهم وبين خصومهم. فإذا كانت خلال قوة الإمبراطورية الرومانية ذات طابع سلبي … فإنها أصبحت معارضة منظمة إيجابية خلال حكم الوندال، ذلك أن إمارات متعددة نشأت في المناطق المحررة من النير الأجنبي وعملت على تحقيق الهدف التاريخي للأمازيغ الذين طردوا إلى الهوامش والمعاقل الجبلية، والمتمثل في الرجوع إلى الشمال والمناطق الغنية.
غير أن هذه السيرورة التاريخية كلما دنت من التتويج تصطدم بموجة عاتية تجهضها، ممثلة في إرادة قوة أجنبية أخرى كان لتدخلها أثر معرقل.”
وستساعد ثورة أنطالاس الطويلة على الوندال واشتعال الثورات الدينية والاجتماعية والعسكرية والثقافية في التعجيل بانهيار الوندال وتعبيد الطريق أمام البيزنطيين للدخول إلى شمال أفريقيا للاستقرار فيها مدة قرن من الزمن.
ب- دخول البيزنطيين إلى أفريقيا الشمالية:
لم تباشر الإمبراطورية البيزنطية في إرسال قواتها العسكرية إلى شمال أفريقيا لمنازلة الوندال إلا بعد إحساسها بضعف العدو الجرماني عسكريا وميدانيا أمام المقاومة الأمازيغية الشرسة التي استنزفت القوة الوندالية ، ووجهت لها ضربات موجعة في معارك شتى فوق التراب النوميدي والتونسي والليبي بالخصوص.
وهكذا، فقد” أبحرت القوات البيزنطية نحو شمال أفريقيا لمنازلة الوندال سنة 534م، ولم يجد بليزير كبير عناء في سحقهم ودخول عاصمتهم قرطاج، فضمت بذلك أفريقية إلى حظيرة الإمبراطورية البيزنطية مدة قرن من الزمن(434-534م).
والحقيقة أن هذا الانتصار السريع الذي حققه البيزنطيون توفرت له ظروف ملائمة مرتبطة بوضع مملكة الوندال، أهمها الثورات الاجتماعية الدينية التي أشعلها الأمازيغ في المنطقة الخاضعة للنفوذ الوندالي، مع ماترتب عليها من انعكاسات سياسية وعسكرية سلبية، كما أن الأمازيغ الكاثوليك بعثوا رسلا إلى بيزنطة طالبين من إمبراطورها تجريد حملة عسكرية مع إعطاء ضمانات بانتصارها على الوندال، الشيء الذي يفسر عدم اصطدام البيزنطيين بمقاومة شعبية أمازيغية. بل نجد أنه عقب إنزال القوات البيزنطية كان الملك الوندالي جلمار على رأس أغلبية قواته في حملة لقمع ثورة بالساحل الجنوبي لإفريقية، تزعمها أمير أمازيغي يدعى أنطالاس.”
ونهجت الحكومة البيزنطية سياسة التحصين وبناء المعاقل على غرار خط الليمس الروماني للحفاظ على وجودهم في إفريقيا الشمالية بعد أن احتلوا تونس وجزءا من نوميديا الشرقية ( الجزائر). وفي الغرب احتلت موانئ تيبازة وشرشال وسبتة وتينجي. وبدأت الحكومة في استغلال ثروات تامازغا واستنزاف خيراتها على غرار السياسة المتبعة من قبل الرومان في العهود السابقة. وشجعت الملاكين ورجال الدين والمرابين على امتلاك الأراضي واستغلال الأمازيغيين وفرض الضرائب الفاحشة والتوسع في الكثير من المناطق من شمال أفريقيا من أجل خدمة المصالح الإستراتيجية للإمبراطورية البيزنطية. بيد أن هذه السياسة التوسعية ستجابه بمقاومة أمازيغية شرسة ولاسيما في نوميديا وتونس وليبيا وقد قادها كل من أنطلاس ويوداس وكوتزيناس بعد أن استغلوا ضعف البيزنطيين وصراعهم حول السلطة وتهافتهم حول الغنائم والنفوذ السياسي والمالي:” فبعد موت جوستنيار(يوستنيانوس) سنة565م، تأكد بالملموس أن الأوضاع تغيرت بعمق في أفريقيا البيزنطية، إذ تواطأ كبار الملاك والموظفون وضباط الجيش للهيمنة على مقاليد الأمور، وانتشر النهب والاستغلال الجشع، وما كثرة التحصينات حول المدن في ذلك العهد إلا دليل على تلاشي السلطة واتساع الهوة بين الحاكمين البيزنطيين والأمازيغ المحكومين، بحيث أعلن هؤلاء الثورة واتساع الهوة بين الحاكمين البيزنطيين في مدنهم، كما اتبع الأمراء الأمازيغ سياسة ماسينيسن (ماسينيسا) الطويلة النفس، المتمثلة في الضغط والمضايقة المستمرين. ومن أشهر هؤلاء الزعماء الأمازيغ الذين تصدوا للاحتلال البيزنطي يوداس أمير الأوراس الذي كانت نوميديا مجال حركته، وكورتيزاس الذي حارب البيزنطيين في افريقية وغيرهما من الأمراء الأمازيغ الذين تزعموا حسب المؤرخين ثماني أو تسع إمارات”
ومن جهة أخرى، فقد ضمن البيزنطيون عن طريق سياسة التحصين وبناء المعاقل” بقاء مهمشا لمواقعهم على الساحل المتوسطي الأفريقي لمدة قرون، دون أن يتمكنوا من التوغل في الأراضي الداخلية كما فعلوا في مصر والشام وآسيا الصغرى وإيطاليا. ضمنوا لها البقاء،دون ضمان الأمن؛ كانوا عادة لاينتقلون من موقع إلى موقع إلا عن طريق البحر. ولما امتدت أنظار الروم إلى بعض أراضي أفريقيا ونوميديا الشرقية، نشطت المقاومة الأمازيغية نشاطا كبيرا بقيادة زعماء من قبائل” أوراس” ، وقبائل ” اللواتة” الليبية أمثال يابداس وأنطالاس وكاركزان. فانهزم البيزنطيون عدة مرات، مع لجوئهم إلى الغدر في غير مناسبة، وقتل منهم عدد من القواد العسكريين الكبار، فاضطروا مرارا إلى أداء الفدى وتقديم الهدايا النفيسة. فبالإضافة إلى المناوشات التي تحدث بين الطرفين باستمرار، قد دارت بينهما معارك طاحنة سنة 537من وسنة543م، وسنة 550م، وسنة563م، فبرز في تلك المعارك قواد عسكريون أمازيغيون مهرة أمثال”گزمول” الذي هزم بالتوالي ثلاثة جنرالات وقتلهم. وكان المقاومون كلما انهزموا لاذوا بالجبال أو الصحراء. وكان الأسرى منهم يتحدون الجنود الروم ويسبون الإمبراطور وهم مصفدون. فأدرك القواد البيزنطيون أن ” الأمازيغ لايمكن أن يهزمهم إلا البربر!”.فاستدرجوا قبائل ” أوراس” إلى التحالف معهم بقيادة يابداس وإفيسداياس Ifisdaias ؛ فقتل أنطالاس. وفي سنة597م خادع الروم البربر وغدروا بهم غدرا شنيعا، وهزموهم. ثم، تواصلت المناوشات إلى أن جاء الإسلام.”
وهكذا، فقد حاول البيزنطيون أن يحافظوا على وجودهم في شمال أفريقيا ولو لفترة مؤقتة قصد استغلال المنطقة استغلالا سريعا لتأمين اقتصاد الإمبراطورية المركزية عن طريق شراء ضمائر القواد الأمازيغيين وضمان تحالفهم ، ونشر التفرقة بين الأهالي والغدر بهم في الأخير، بيد أنهم لم يفلحوا في ذلك بسبب اشتداد المقاومة الأمازيغية في كل ربوع تامازغا احتجاجا على الوجود البيزنطي في أرضهم.
ج- مقاومة أنطالاس للقوات البيزنطية:
لم يحارب أنطالاس القوات البيزنطية إلا بعد مقتل زعماء لواتة وقتل أخيه وتوقف راتبه السنوي . وبالتالي، رفض أنطالاس بشكل قاطع أي تحالف مشين مع البيزنطيين الذين أرادوا تجويع الممالك الأمازيغية من أجل تصدير خيرات الأمازيغ الأحرار إلى بيزنطة، وفي هذا السياق تقول الأستاذة ماجدة بنحربيط:” ومن بين هذه القبائل نذكر قبيلة اللواتيين Levathes الذين كانوا يستقلون ببعض الأراضي الواقعة على حدود مدينة لبدة، ولقد أدت إهانة الحاكم البيزنطي سرجيوسSergius لبعض ممثليهم، وقتله لأعداد كبيرة منهم، حين اشتكوا له تطاول الجيش البيزنطي على أراضيهم، إلى إعلانهم الحرب على بيزنطة، ويبدو أن انتصار البيزنطيين عليهم في المعركة الأولى، دفع بهم إلى دعوة كل القبائل المورية سواء التي تستقر داخل الأراضي الطرابلسية أم خارجها إلى تنظيم صفوفهم استعدادا للحرب، وانتقلوا جميعا إلى بيزاكينا للاتصال بأنطالاس الذي أعلن بدوره عن محاربته للبيزنطيين بسبب مقتل أخيه على يد سولومون وتوقف راتبه السنوي الذي تقدمه له بيزنطة منذ تحالفه مع بليزاريوس.”
ولم يقاوم أنطالاس البيزنطيين فحسب، بل واجه قبلهم الجيوش الوندالية وخاصة في الساحل الجنوبي لإفريقية. واستطاع أن ينتصر على الوندال وأن يعكر صفو رؤسائهم وقوادهم الذين كرسوا وقتا كبيرا لدحر قوات أنطالاس، ولكن بدون هدف يذكر ولا جدوى. وقد أهلت الحروب التي خاضها أنطالاس ضد الوندال لامتلاك خبرة كبيرة في إدارة الحروب وتسيير دفتها وإعداد الجيوش إعدادا حسنا في مواجهة القوات البيزنطية الغازية.
هذا، وقد فشل البيزنطيون في بداية الأمر فشلا ذريعا في مواجهة القوة الأمازيغية بسبب كثرة القلاقل والفتن التي كانت تشتعل كل وقت وحين في مناطق النفوذ البيزنطي والتي كان وراءها القواد الأمازيغيون الكبار أمثال: أنطالاس ويوداس وكوتزيناس، وقد سببت هذه الحروب المتطاحنة بين البيزنطيين و الأمازيغ في استنزاف قوة الغزاة الذين لم يستطيعوا الصمود أمام الجحالف العربية الغازية بدعوى (نشر الإسلام) .
وكانت ثورة أنطالاس ثورة اجتماعية ودينية وبروليتارية شاملة
شارك فيها الأهالي والفلاحون والعبيد والأقنان والمياومون الأجراء والمظلومون من ساكنة تامازغا، فانتفضوا ضد الاستغلال البيزنطي وتظاهروا ضد سياسة الإقصاء والتهميش، وطرد الأمازيغيين من أراضيهم وممتلكاتهم، فوجدوا في مناصرة أنطالاس حلا للانتقام من الأعداء والتشفي من الوجود البيزنطي الذي جوعهم وتركهم حفاة عراة بدون أراضيهم وممتلكاتهم وخيراتهم .
ويعني هذا أن العامل الاقتصادي كان من بين العوامل التي أشعلت المقاومة العسكرية التي قادها أنطالاس ، وهذا العامل يركز عليه كثيرا الدكتور عبد الله العروي باعتباره سببا مباشرا لانفجار ثورة أنطالاس التحررية:” في بداية القرن السادس طرد أنطالاس وأتباعه الملاكين البيزنطيين من منطقة غرب تونس الحالية، كيف لانتصور أن العملية تمت وسط فرحة الأهالي المزارعين! عندما تحصن البيزنطيون في المدن وطوقوا جبل الأوراس لكي لا يباغتهم سكانه، عندما تقدم الأمازيغ الثائرون من طرابلس إلى ضاحية قرطاج سنة587م، والحكم آنذاك بين يد قائد الجيش الإمبراطوري جيناديوس، أكان من الممكن أن تتحقق هذه الانتصارات لو لم يحظ الثوار بإعانة الأقنان والمياومين وصغار الملاكين الذين تحرروا من عبء السخرة والضريبة والكراء؟ صحيح أن سكان المغرب المفتوح، المعروفين باسم الأفارقة اليوم ، كانوا يختلفون دينا ولغة وعادات عن الماوريين، أو البربر الأحرار، لكن بما أن الكنيسة الكاثوليكية قد ربطت مصيرها بالنظام الإمبراطوري، ألا يجوز لنا أن نفترض أن المغاربة غلبوا في النهاية المصالح المشتركة على الفوارق الثقافية؟”
وعليه، فلم تقم ثورة أنطالاس في مواجهة البيزنطيين سوى من أجل الانتقام من الظالمين الذين كانوا يسفكون دماء الأمازيغيين بدون رحمة ولا شفقة، والثأر من هؤلاء الروم الغادرين الذين قتلوا رؤساء قبيلة لواتة نزولا إلى أوامر سيرجيوس في تصفية المعارضين والمقاومين الشرفاء. وقد خاض أنطالاس عدة حروب ضد الكثير من القواد البيزنطيين، واستطاع بخبرته المحنكة في القتال أن يهزمهم شر هزيمة، ولكنه سينهزم في الأخير مع القوات البيزنطية التي كان يقودها جان تروگليتا (يوحنا التروليطي) بعد ما أن مني بمكائد إخوانه الأمازيغ والخونة المتعاونين مع قوات الأعداء الغزاة.
وعلى الرغم من ذلك فلم تفلح الإمبراطورية الرومانية في فرض سيطرتها على الممالك الأمازيغية بسبب كثرة الفتن والثورات التي كانت تشتعل هنا وهناك إلى أن جاء جيوش الغزات العربية لتضع نهاية للوجود البيزنطي في شمال أفريقيا. ويوضح ما قلناه الأستاذ إبراهيم حركات في كتابه” المغرب عبر التاريخ”:” أدى التهور بسرجيوس حاكم طرابلس إلى اعتقال رؤساء لواتة وقتلهم في قصره فتألب البربر على البيزنطيين تعضيدا لإخوانهم وقاد الثورة البربرية أنطالاس الذي قضى على سالومون Salomon وجيشه في معركة قصرين سنة543م.
ولم يوفق سرجيوس الذي خلف سولومون في التغلب على الامازيغ الذين اكتسحوا مدن أفريقية ونوميديا وهزموا جيوشه في كل مكان. ورغم تعيين القائد أريوبندوس Aréobindus مساعدا له، فإن أنطالاس استمر في اكتساحه للمدن والقرى، بينما دبرت مؤامرة ضد أريبوندوس من لدن بعض أعدائه العسكريين الذين قدموا رأسه إلى أنطالاس، وأخيرا عين القائد جان طروگليتا على جيش بيزنطة بأفريقية. وبعد سنوات طويلة من الصراع استطاع إخضاع أنطالاس سنة548م، حتى إذا مات جستنيان سنة 565م استأنف الامازيغ الكفاح ضد البيزنطيين الذين قاموا بإنشاء تحصينات عديدة في المراكز التي كانوا يحتلونها بما في ذلك سبتة..”
وهكذا نستنتج أن أنطالاس أذاق البيزنطيين مرارة الهزائم المتوالية وخاصة في معركة قصرين التي سقط فيها سالومون صريعا. وبعد ذلك، توالت هزائم القواد البيزنطيين بشكل فظيع:” لقد استغل الموريون ارتفاع أعدادهم في هذه المرحلة مقارنة بأعداد البيزنطيين فضلا عن تشتت صفوف هذا الأخير بسبب تمرد بعض عناصره، فأحرزوا على الانتصار، خلال هذه المعركة التي سقط سلومون خلالها صريعا، والتي تسمى معركة كيليوم نسبة إلى مدينة كيليوم (قصرين) Cilium ، بينما لجأت باقي العناصر البيزنطية إلى الفرار. وتوالت انتصارات الموريين على البيزنطيين في بيزاكينا، إذ تمكنوا من التقدم نحو ولاية البروقنصلية التي شهدت بدورها بعض أطوار الصراع البيزنطي- الموري خلال هذه المرحلة، والتي اهتم بوصفها كلا من بروكوپ وكوريبوس؛ مما دفع بيوستتنيانوس إلى تعيين مجموعة كبيرة من القادة العسكريين للقضاء على هذه الثورات . كان آخرهم هو يوحنا التروليطي الذي قاد المرحلة الأخيرة من مراحل الحرب المورية- البيزنطية.”
ولكن لم تخمد مقاومة أنطالاس ومقاومة رفاقه الأمازيغيين إلا بسبب الخيانة الأمازيغية و غدر الأهالي بأبطالهم حقدا وحسدا وطمعا في الغنائم الرومانية والوعود البراقة التي كان يثق فيها الأمازيغ؛ مما يجعلهم يلتجئون إلى الغدر بزعمائهم وقوادهم من خلال التحالف مع القوات البيزنطية، وفي هذا يقول بعض المؤرخين المغاربة:” أما الأمازيغ- أهل البلاد- فقد سلك معهم الروم سياسة خاصة قوامها استمالة الرؤساء وبذر الشقاق فيما بينهم. وقد كان الروم يعلمون- كما علم الرومان قبلهم- أنهم لا يزالون بخير مادامت كلمة الأهالي متفرقة لم تجتمع وقلوبهم شتى؛ ولهذا كانوا يستقدمون رؤساء الأمازيغ لقرطاجنة؛ فيسبغون عليهم من الحلل والخلع ما يثلج صدورهم ويجعل ألسنتهم رطبة بالثناء عليهم؛ ثم يوسوسون لهم حتى يغيروا بعضهم على بعض. ولو علمت ماكان بين رؤساء الأمازيغ من البغضاء والشحناء والتنافس في أتفه الأمور وأحقرها شأنا لعرفت مقدار تطاحنهم وتهافتهم على أبواب الحكومة البيزنطية سعيا في إشباع رغباتهم وتحقيق مصالحهم الشخصية. كل ذلك والروم ينظرون إليهم في شيء من الغبطة والارتياح بما نفذ فيهم من سياسة الفرقة والسيادة.”
3- نتائج ثورة أنطالاس:
تتمثل نتائج المقاومة الأمازيغية التي أشعلها أنطالاس في إسراع البيزنطيين إلى تطويق الأمازيغيين ومحاصرتهم عسكريا من أجل استنزاف خيرات تامازغا بشكل مستمر؛ لأنهم كانوا يعلمون أنهم لن يظلوا متشبثين بهذه الأراضي بسبب المقاومة الشرسة التي كان يشعلها المقاومون الأمازيغ، لذلك عمل البيزنطيون على التنكيل بكل الزعماء الأمازيغ الأقوياء وإعدامهم بقسوة لانظير لها:”كان الزعماء الأمازيغ يعترفون بسيادة اسمية لمن حكم قرطاج وماحواليها، لكنهم يرفضون كل عودة إلى وضعية ما قبل القرن الثالث، إلى عهد التوسع والاستغلال المباشر، وهو موقف لايتسم بالخداع والحقد والطيش،كما يقول المؤرخون الغربيون، بقدر ما يتميز بما اتسمت به سياسة ماسينيسن من عناد وطول النفس، من لجوء إلى خطة لا تتغير وهي محاصرة الروم في حماهم الحصين، حمى القرطاجيين ومن جاء بعدهم ومضايقتهم جنوبا وشرقا. تدل وقائع لأواخر العهد البيزنطي عن يأس شديد إذ لجأوا باستمرار إلى الغدر والخيانة والانتقام والمباغتة، إلى الحيل التي يرغم على إتباعها عادة المحاصرون. كل قائد سقط بين أيديهم أعدموه في الحين، وهذا ما حصل لأنطالاس وكركزان وگرمول. أحسوا منذ البداية أن حكمهم مؤقت فقرروا الاستفادة منه في أقصر وقت. استغلوا الناس فوق ما يطاق فأضرموا نار ثورة لاتخمد.”
ولم يتم القضاء على ثورة أنطالاس – كما أثبتنا ذلك سالفا- إلا باستعانة الإمبراطور يوستنيانوس بيوحنا الترولوطي الذي عينه سنة546م حاكما جديدا على أفريقيا ليتولى الإدارة المدنية والعسكرية، ويقضي على كل الثورات الأمازيغية المعارضة، ويوقف المقاومة المورية بالنار والحديد ولاسيما ثورة أنطالاس الواسعة.
ولما غادر:” يوحنا القسطنطينية متجها نحو الساحل الإفريقي بوصوله إلى ولاية بيزاكينا، استقبل مبعوثا موريا ينصحه باسم ملك الفريكسيس أنطالاس بالتراجع وعدم خوض حرب، سيحقق خلالها النصر للموريين ومذكرا إياه بالانتصارات التي حققها أجداد الموريين على الإمبراطور الروماني ماكسيميان Maximien في القرن الثالث الميلادي305-286م.
لكن تروليطا لم يبد اهتماما برسالة الملك الموريين وخاضت فيالق من الجيش البيزنطي معركة ضد الموريين انتهت بهزيمة البيزنطيين وفرارهم، ولما علم تروليطا بهزيمة الفيالق البيزنطية ، نظم صفوفه لمواجهة أنطالاس قائد الفريكسيس وإيرنا قائد اللواتيين، واهتم كذلك بالبحث عن حلفاء له في الأوساط المورية، وتحقق له ذلك حين تحول الموريون أتباع كوتزينا عن موقفهم المعادي لبيزنطة، وحاربوا إلى جانبها في المعارك الأخيرة.”
وإذا كانت نتائج المعارك والتطاحنات بين الفريقين في الأخير لصالح البيزنطيين بسبب خيانة البربر، وحسدهم لبعضهم البعض، وكثرة أطماعهم التي لاتنتهي، والانتقال إلى قصور البيزنطيين من أجل التوسل والاستجداء رغبة في إشباع رغباتهم ونزواتهم على حساب الوطن وكينونة الأهالي والشرف الأمازيغي، فإنهم- كما قلنا سابقا- لم ينعموا بانتصاراتهم في بلاد تامازغا؛ وذلك لاشتداد المقاومة الأمازيغية الشرسة التي حررت اراضيها بقوة الرجال.
خاتمــــــة:
يمثل أنطالاس المقاومة العسكرية الأمازيغية في عهد البيزنطيين خير تمثيل؛ لأنه استطاع أن ينتصر على القواد وجنرالات الإمبراطورية البيزنطية، وأن يسحقها بكل قوة وشراسة في عدة معارك حامية الوطيس، وقد تأثر في مقاومته للبيزنطيين المتحصنين في المعاقل والثكنات العتيدة بالطرائق العسكرية والسيناريوهات الحربية التي انتهجها أجداده أمثال: يوغرطة وتاكفاريناس وماسينيسا . ولم تخمد ثورته العسكرية إلا عن طريق الخيانة ((البربرية)) وشراء البيزنطيين لذمم رؤساء القبائل للتحالف معهم ضد الثوار المنشقين عن الحكم البيزنطي وتطويق المقاومة الأمازيغية ومحاصرة زعمائها أينما حلوا وارتحلوا.
وعلى الرغم من ذلك، فقد اشتدت المقاومة الأمازيغية ضراوة واشتعالا في الكثير من مناطق شمال أفريقيا؛ مما جعل البيزنطيين لا ينعمون بالاستقرار والأمن في تحصيناتهم ومعاقلهم ، وقضوا قرنا كاملا في الدفاع عن نفوذهم وأطماعهم إلى أن جاء الغزو العربي الذي وضع حدا نهائيا للوجود البيزنطي في شمال أفريقيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق